فصل: تفسير الآيات رقم (70- 71)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


سورة الأنعام

مكية، وهي مائة وخمس وستون آية، نزلت بمكة جملة ليلا معها سبعون ألف ملك قد سدوا ما بين الخافقين، لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتمجيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم وخر ساجدا‏"‏‏.‏

وروي مرفوعا‏:‏ ‏"‏من قرأ سورة الأنعام يصلي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره‏"‏‏.‏

وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ نزلت سورة الأنعام بمكة، إلا قوله‏:‏ ‏"‏وما قدروا الله حق قدره‏"‏، إلى آخر ثلاث آيات، وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏قل تعالوا أتل‏"‏، إلى قوله‏:‏ ‏"‏لعلكم تتقون‏"‏، فهذه الست آيات مدنيات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ‏}‏ قال كعب الأحبار‏:‏ هذه الآية أول آية في التوراة، وآخر آية في التوراة، قوله‏:‏ ‏"‏الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا‏"‏ الآية ‏(‏الإسراء- 111‏)‏‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ افتتح الله الخلق بالحمد، فقال‏:‏ ‏(‏الحمد لله الذي خلق السموات والأرض‏)‏، وختمه بالحمد فقال‏:‏ ‏(‏وقضي بينهم بالحق‏)‏، أي‏:‏ بين الخلائق، ‏{‏وقيل الحمد لله رب العالمين‏}‏ ‏(‏الزمر- 75‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏الحمد لله‏"‏ حمد الله نفسه تعليما لعباده، أي‏:‏ احمدوا الله الذي خلق السموات والأرض، خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد، وفيهما العبر والمنافع للعباد، ‏{‏وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ‏}‏ والجعل بمعنى الخلق، قال الواقدي‏:‏ كل ما في القرآن من الظلمات والنور فهو الكفر والإيمان، إلا في هذه الآية فإنه يريد بهما الليل والنهار‏.‏

وقال الحسن‏:‏ وجعل الظلمات والنور يعني الكفر والإيمان، وقيل‏:‏ أراد بالظلمات الجهل وبالنور العلم‏.‏

وقال قتادة‏:‏ يعني الجنة والنار‏.‏

وقيل‏:‏ معناه خلق الله السموات والأرض، وقد جعل الظلمات والنور، لأنه خلق الظلمة والنور قبل السموات والأرض‏.‏

قال قتادة‏:‏ خلق الله السموات قبل الأرض، والظلمة قبل النور، والجنة قبل النار، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الله تعالى خلق الخلق فى ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل‏"‏‏.‏

‏{‏ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏ أي‏:‏ ثم الذين كفروا بعد هذا البيان بربهم يعدلون، أي‏:‏ يشركون، وأصله من مساواة الشيء بالشيء، ومنه العدل، أي‏:‏ يعدلون بالله غير الله تعالى، يقال‏:‏ عدلت هذا بهذا إذا ساويته، وبه قال النضر بن شميل، الباء بمعنى عن، أي‏:‏ عن ربهم يعدلون، أي يميلون وينحرفون من العدول، قال الله تعالى ‏(‏عينا يشرب بها عباد الله‏)‏ أي‏:‏ منها‏.‏

وقيل‏:‏ تحت قوله ‏"‏ثم الذين كفروا بربهم يعدلون‏"‏ معنى لطيف، وهو مثل قول القائل‏:‏ أنعمت عليكم بكذا وتفضلت عليكم بكذا، ثم تكفرون بنعمتي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 3‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ‏(‏2‏)‏ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ‏}‏ يعني آدم عليه السلام، خاطبهم به إذ كانوا من ولده‏.‏ قال السدي‏:‏ بعث الله تعالى جبريل عليه السلام إلى الأرض ليأتيه بطائفة منها، فقالت الأرض إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني، فرجع جبريل ولم يأخذ وقال‏:‏ يا رب إنها عاذت بك، فبعث ميكائيل، فاستعاذت فرجع، فبعث ملك الموت فعاذت منه بالله، فقال‏:‏ وأنا أعوذ بالله أن أخالف أمره، فأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء، فلذلك اختلفت ألوان بني آدم، ثم عجنها بالماء العذب والملح والمر، فلذا اختلفت أخلاقهم فقال الله تعالى لملك الموت‏:‏ رحم جبريل وميكائيل الأرض ولم ترحمها، لا جرم أجعل أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك‏.‏

ورُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ‏"‏خلق الله آدم عليه السلام من تراب وجعله طينا، ثم تركه حتى كان حمأ مسنونا ثم خلقه وصوّره وتركه حتى كان صلصالا كالفخار، ثم نفخ فيه روحه‏"‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ‏}‏ قال الحسن وقتادة والضحاك‏:‏ الأجل الأول من الولادة إلى الموت، والأجل الثاني من الموت إلى البعث، وهو البرزخ، وروي ذلك عن ابن عباس، وقال‏:‏ لكل أحد أجلان أجل إلى الموت وأجل من الموت إلى البعث، فإن كان برا تقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر، وإن كان فاجرا قاطعا للرحم نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث، وقال مجاهد وسعيد بن جبير‏:‏ الأجل الأول أجل الدنيا، والأجل الثاني أجل الآخرة، وقال عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما ‏{‏ثُمَّ قَضَى أَجَلا‏}‏ يعني‏:‏ النوم تقبض فيه الروح ثم ترجع عند اليقظة، ‏{‏وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ‏}‏ يعني‏:‏ أجل الموت، وقيل‏:‏ هما واحد معناه‏:‏ ثم قضى أجلا يعني‏:‏ جعل لأعماركم مدة تنتهون إليها، ‏"‏وأجل مسمى عنده‏"‏ يعني‏:‏ وهو أجل مسمى عنده، لا يعلمه غيره، ‏{‏ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ‏}‏ تشكّون في البعث‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ‏}‏ يعني‏:‏ وهو إله السموات والأرض، كقوله‏:‏ ‏(‏وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله‏)‏، وقيل‏:‏ هو المعبود في السموات والأرض، وقال محمد بن جرير‏:‏ معناه هو في السموات يعلم سركم وجهركم في الأرض، وقال الزجاج‏:‏ فيه تقديم وتأخير تقديره‏:‏ وهو الله، ‏{‏يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ‏}‏ في السموات والأرض ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ‏}‏ تعملون من الخير والشر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 7‏]‏

‏{‏وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏4‏)‏ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ‏(‏6‏)‏ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَا تَأْتِيهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكة، ‏{‏مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ‏}‏ مثل انشقاق القمر وغيره، وقال عطاء‏:‏ يريد من آيات القرآن، ‏{‏إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ‏}‏ لها تاركين بها مكذبين‏.‏

‏{‏فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ‏}‏ بالقرآن، وقيل‏:‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏ أي‏:‏ أخبار استهزائهم وجزاؤه، أي‏:‏ سيعلمون عاقبة استهزائهم إذا عذبوا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ‏}‏ يعني‏:‏ الأمم الماضية، والقرن‏:‏ الجماعة من الناس، وجمعه قرون، وقيل‏:‏ القرن مدة من الزمان، يقال ثمانون سنة، وقيل‏:‏ ستون سنة، وقيل‏:‏ أربعون سنة، وقيل‏:‏ ثلاثون سنة، ويقال‏:‏ مائة سنة، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بُسْر المازني‏:‏ ‏"‏إنك تعيش قرنا‏"‏، فعاش مائة سنة

فيكون معناه على هذه الأقاويل من أهل قرن، ‏{‏مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أعطيناهم ما لم نعطكم، وقال ابن عباس‏:‏ أمهلناهم في العمر مثل قوم نوح وعاد وثمود، يقال‏:‏ مكنته ومكنت له، ‏{‏وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا‏}‏ يعني‏:‏ المطر، مِفْعَال، من الدر، قال ابن عباس‏:‏ مدرارا أي‏:‏ متتابعا في أوقات الحاجات، وقوله‏:‏ ‏"‏ما لم نمكن لكم‏"‏ من خطاب التلوين، رجع من الخبر من قوله‏:‏ ‏"‏ألم يروا‏"‏ إلى خطاب، كقوله‏:‏ ‏(‏حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم‏)‏ ‏(‏يونس، 22‏)‏‏.‏

وقال أهل البصرة‏:‏ أخبر عنهم بقوله ‏"‏ألم يروا‏"‏ وفيهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم خاطبهم معهم، والعرب تقول‏:‏ قلت لعبد الله ما أكرمه، وقلت‏:‏ لعبد الله ما أكرمك، ‏{‏وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا‏}‏ خلقنا وابتدأنا، ‏{‏مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ‏}‏ الآية، قال الكلبي ومقاتل نزلت في النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد، قالوا‏:‏ يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسوله، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ‏}‏ مكتوبا من عندي، ‏{‏فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ‏}‏ أي‏:‏ عاينوه ومسوه بأيديهم، وذكر اللمس ولم يذكر المعاينة لأن اللمس أبلغ في إيقاع العلم من الرؤية فإن السحر يجري على المرئي ولا يجري على الملموس، ‏{‏لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ‏}‏ معناه‏:‏ لا ينفع معهم شيء لما سبق فيهم من علمي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 11‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ‏(‏8‏)‏ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ‏(‏9‏)‏ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏10‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ‏}‏ على محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأمْرُ‏}‏ أي‏:‏ لوجب العذاب، وفرغ من الأمر، وهذا سنة الله في الكفار أنهم متى اقترحوا آية فأنزلت ثم لم يؤمنوا استؤصلوا بالعذاب، ‏{‏ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يؤجلون ولا يمهلون، وقال قتادة‏:‏ لو أنزلنا ملكا ثم لم يؤمنوا لعُجّل لهم العذاب ولم يؤخروا طرفة عين، وقال مجاهد‏:‏ لقضي الأمر أي لقامت القيامة، وقال الضحاك‏:‏ لو أتاهم ملك فى صورته لماتوا‏.‏

‏{‏وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا‏}‏ يعني‏:‏ لو أرسلنا إليهم ملكا ‏{‏لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا‏}‏ يعني في صورة رجل آدمي، لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة، وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي، وجاء الملكان إلى داود في صورة رجلين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ‏}‏ أي‏:‏ خلطنا عليهم ما يخلطون وشبّهنا عليهم فلا يدرون أملك هو أم آدمي، وقيل معناه شَبّهوا على ضعفائهم فشبّه عليهم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ هم أهل الكتاب فرقوا دينهم وحرفوا الكلم عن مواضعه، فلبس الله عليهم ما لبسوا على أنفسهم وقرأ الزهري ‏{‏وَلَلَبَسْنَا‏}‏ بالتشديد على التكرير والتأكيد‏.‏

‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏ كما استهزئ بك يا محمد يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ‏{‏فَحَاقَ‏}‏ قال الربيع بن أنس فنزل، وقال عطاء‏:‏ حل، وقال الضحاك‏:‏ أحاط، ‏{‏بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏ أي‏:‏ جزاء استهزائهم من العذاب والنقمة‏.‏

‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد لهؤلاء المكذبين المستهزئين، ‏{‏سِيرُوا فِي الأرْضِ‏}‏ معتبرين، يحتمل هذا‏:‏ السير بالعقول والفكر، ويحتمل السير بالأقدام، ‏{‏ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ‏}‏ أي‏:‏ آخر أمرهم وكيف أورثهم الكفر والتكذيب الهلاك، فحذّر كفار مكة عذاب الأمم الخالية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏13‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ‏}‏ فإن أجابوك وإلا فـ ‏{‏قُلْ‏}‏ أنت، ‏{‏لِلَّهِ‏}‏ أمره بالجواب عقيب السؤال ليكون أبلغ في التأثير وآكد في الحجة، ‏{‏كَتَبَ‏}‏ أي‏:‏ قضى، ‏{‏عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ‏}‏ هذا استعطاف منه تعالى للمؤمنين عنه إلى الإقبال عليه وإخباره بأنه رحيم بالعباد لا يعجل بالعقوبة، ويقبل الإنابة والتوبة‏.‏

أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي أخبرنا أبو طاهر الزيادي أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه قال ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش‏:‏ إن رحمتي غلبت غضبي‏"‏‏.‏

وروى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة‏:‏ ‏"‏إن رحمتي سبقت غضبي‏.‏

أخبرنا الشيخ أبو القاسم عبد الله بن علي الكركاني أنا أبو طاهر الزيادي أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا عبد الرحمن المروزي أخبرنا عبد الله بن المبارك أنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن لله رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تتعاطف الوحوش على أولادها، وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا ابن أبي مريم ثنا أبو غسان حدثني زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم قال‏:‏ قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها، تسعى إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أترون هذه طارحة ولدها في النار‏؟‏ فقلنا‏:‏ لا وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال‏:‏ الله أرحم بعباده من هذه بولدها‏"‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَيَجْمَعَنَّكُمْ‏}‏ اللام فيه لام القسم والنون نون التأكيد مجازه‏:‏ والله ليجمعنكم، ‏{‏إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ أي‏:‏ في يوم القيامة، وقيل‏:‏ معناه ليجمعنكم في قبوركم إلى يوم القيامة، ‏{‏لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا‏}‏ غبنوا، ‏{‏أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ‏}‏ أي‏:‏ استقر، قيل‏:‏ أراد ما سكن وما تحرك، كقوله‏:‏ ‏(‏سرابيل تقيكم الحر‏)‏ أي‏:‏ الحر والبرد، وقيل‏:‏ إنما خص السكون بالذكر لأن النعمة فيه أكثر، قال محمد بن جرير‏:‏ كل ما طلعت عليه الشمس وغربت فهو من ساكن الليل والنهار، والمراد منه جميع ما في الأرض‏.‏ وقيل معناه‏:‏ ما يمر عليه الليل والنهار، ‏{‏وَهُوَ السَّمِيعُ‏}‏ لأصواتهم، ‏{‏الْعَلِيمُ‏}‏ بأسرارهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا‏}‏‏؟‏ وهذا حين دعا إلى دين آبائه، فقال تعالى‏:‏ قل يا محمد أغير الله أتخذ وليا، ربا ومعبودا وناصرا ومعينا‏؟‏ ‏{‏فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ خالقهما ومبدعهما ومبتديهما، ‏{‏وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ‏}‏ أي‏:‏ وهو يَرْزق ولا يُرْزَق كما قال‏:‏ ‏(‏ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون‏)‏‏.‏ ‏{‏قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ‏}‏ يعني‏:‏ من هذه الأمة، والإسلام بمعنى الاستسلام لأمر الله، وقيل‏:‏ أسلم أخلص، ‏{‏وَلا تَكُونَنَّ‏}‏ يعني‏:‏ وقيل لي ولا تكونن، ‏{‏مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏15‏)‏ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ‏(‏16‏)‏ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي‏}‏ فعبدت غيره ‏{‏عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ عذاب يوم القيامة‏.‏

‏{‏مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ‏}‏ يعني‏:‏ من يصرف العذاب عنه، قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب ‏"‏ يصرف ‏"‏ بفتح الياء وكسر الراء، أي‏:‏ من يصرف الله عنه العذاب، لقوله‏:‏ ‏"‏فقد رحمه‏"‏ وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الراء، ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة، ‏{‏فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ‏}‏ أي‏:‏ النجاة البينة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ‏}‏ بشدة وبلية، ‏{‏فَلا كَاشِفَ لَهُ‏}‏ لا رافع، ‏{‏إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ‏}‏ عافية ونعمة، ‏{‏فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ من الخير والضر‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو عبد الله السلمي أنا أبو العباس الأصم أنا أحمد بن شيبان الرملي أنا عبد الله بن ميمون القداح أنا شهاب بن خراش، هو ابن عبد الله عن عبد الملك بن عمير عن ابن عباس قال‏:‏ أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة، أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر، ثم أردفني خلفه، ثم سار بي مليا ثم التفت إليّ فقال‏:‏ يا غلام، فقلت‏:‏ لبيك يا رسول الله، قال‏:‏ ‏"‏احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وقد مضى القلم بما هو كائن، فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه الله تعالى لك لم يقدروا عليه، ولو جهدوا أن يضروك بما لم يكتب الله تعالى عليك، ما قدروا عليه، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين، فافعل فإن لم تستطع فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم أن النصر مع الصبر، وأن مع الكرب الفرج، وأن مع العسر يسرا‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 21‏]‏

‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏18‏)‏ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏19‏)‏ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ‏(‏20‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏ القاهر الغالب، وفي القهر زيادة معنى على القدرة، وهي منع غيره عن بلوغ المراد، وقيل‏:‏ هو المنفرد بالتدبير الذي يجبر الخلق على مراده، فوق عباده هو صفة الاستعلاء الذي تفرد به الله عز وجل‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الْحَكِيمُ‏}‏ في أمره، ‏{‏الْخَبِيرُ‏}‏ بأعمال عباده‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً‏}‏‏؟‏ الآية، قال الكلبي‏:‏ أتى أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ أرنا من يشهد أنك رسول الله فإنا لا نرى أحدا يصدقك، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ‏}‏ أعظم، ‏{‏شَهَادَةً‏}‏‏؟‏ فإن أجابوك، وإلا ‏{‏قُلِ اللَّهُ‏}‏ هو ‏{‏شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ على ما أقول، ويشهد لي بالحق وعليكم بالباطل، ‏{‏وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ‏}‏ لأخوفكم به يا أهل مكة، ‏{‏وَمَنْ بَلَغَ‏}‏ يعني‏:‏ ومن بلغه القرآن من العجم وغيرهم من الأمم إلى يوم القيامة‏.‏

حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد بن الحنفي أنا محمد بن بشر بن محمد المزني أنا أبو بكر

محمد بن الحسن بن بشر النقاش أنا أبو شعيب الحراني أنا يحيى بن عبد الله بن الضحاك البابلي أنا الأوزاعي حدثني حسان بن عطية عن أبي كبشة السلولي عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ معقده من النار‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها‏.‏ فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم‏:‏ إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم‏"‏‏.‏

قال مقاتل‏:‏ من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له، وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا صلى الله عليه وسلم وسمع منه، أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى‏؟‏ ولم يقل أخر لأن الجمع يلحقه التأنيث، كقوله عز وجل‏:‏ ‏(‏ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها‏)‏ ‏(‏الأعراف، 180‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏فما بال القرون الأولى‏)‏‏.‏ ‏(‏طه، 51‏)‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد إن شهدتم أنتم، فـ ‏{‏لا أَشْهَدُ‏}‏، أنا أن معه إلها، ‏{‏قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ‏}‏، يعني‏:‏ التوراة والإنجيل، ‏{‏يَعْرِفُونَهُ‏}‏، يعني‏:‏ محمدا صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته، ‏{‏كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ‏}‏، من بين الصبيان‏.‏ ‏{‏الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ‏}‏، غبنوا أنفسهم ‏{‏فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏، وذلك أن الله جعل لكل آدمي منزلا في الجنة ومنزلا في النار، وإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة، ولأهل النار منازل أهل الجنة في النار، وذلك الخسران‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ‏}‏، أكفر، ‏{‏مِمَّنِ افْتَرَى‏}‏، اختلق، ‏{‏عَلَى اللَّهِ كَذِبًا‏}‏، فأشرك به غيره، ‏{‏أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ‏}‏، يعني‏:‏ القرآن، ‏{‏إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ‏}‏، الكافرون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏22‏)‏ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ‏(‏23‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا‏}‏، أي‏:‏ العابدين والمعبودين، يعني‏:‏ يوم القيامة، قرأ يعقوب ‏"‏ يحشرهم ‏"‏ هاهنا، وفي سبأ بالياء، ووافق حفص في سبأ، وقرأ الآخرون بالنون، ‏{‏ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏، أنها تشفع لكم عند ربكم‏.‏

‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ‏}‏، قرأ حمزة والكسائي ويعقوب ‏"‏يكن‏"‏ بالياء لأن الفتنة بمعنى الافتتان، فجاز تذكيره، وقرأ الآخرون بالتاء لتأنيث الفتنة، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم ‏"‏فتنتهم‏"‏ بالرفع جعلوه اسم كان، وقرأ الآخرون بالنصب، فجعلوا الاسم قوله ‏"‏أن قالوا‏"‏ وفتنتهم الخبر، ومعنى قوله ‏"‏فتنتهم‏"‏ أي‏:‏ قولهم وجوابهم، وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ معذرتهم والفتنة التجربة، فلما كان سؤالهم تجربة لإظهار ما في قلوبهم قيل فتنة‏.‏

قال الزجاج في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ‏}‏ معنى لطيف وذلك مثل الرجل يفتتن بمحبوب ثم يصيبه فيه محنة فيتبرأ من محبوبه، فيقال‏:‏ لم تكن فتنت إلا هذا، كذلك الكفار فتنوا بمحبة الأصنام ولما رأوا العذاب تبرأوا منها، يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ‏}‏ في محبتهم الأصنام، ‏{‏إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏، قرأ حمزة والكسائي ‏"‏ ربنا ‏"‏ بالنصب على نداء المضاف، وقرأ الآخرون بالخفض على نعت والله، وقيل‏:‏ إنهم إذا رأوا يوم القيامة مغفرة الله تعالى وتجاوزه عن أهل التوحيد قال بعضهم لبعض‏:‏ تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجوا مع أهل التوحيد، فيقولون‏:‏ والله ربنا ما كنا مشركين، فيختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم بالكفر‏.‏

فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ‏}‏، باعتذارهم بالباطل وتبريهم عن الشرك، ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ‏}‏ زال وذهب عنهم ‏{‏مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏}‏ من الأصنام، وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها، فبطل كله في ذلك اليوم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ‏(‏25‏)‏ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ‏}‏ الآية، قال الكلبي‏:‏ اجتمع أبو سفيان بن حرب وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف والحارث بن عامر، يستمعون القرآن فقالوا للنضر‏:‏ يا أبا قتيلة ما يقول محمد‏؟‏ قال‏:‏ ما أدري ما يقول إلا أني أراه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين، مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية، وكان النضر كثير الحديث عن القرون وأخبارها‏.‏ فقال أبو سفيان‏:‏ إني أرى بعض ما يقول حقا، فقال أبو جهل‏:‏ كلا لا نقر بشيء من هذا، وفي رواية‏:‏ للموت أهون علينا من هذا، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ومنهم من يستمع إليك‏"‏ وإلى كلامك، ‏{‏وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً‏}‏، أغطية، جمع كنان، كالأعنة جمع عنان، ‏{‏أَنْ يَفْقَهُوهُ‏}‏، أن يعلموه، قيل‏:‏ معناه أن لا يفقهوه، وقيل‏:‏ كراهة أن يفقهوه، ‏{‏وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا‏}‏، صمما وثقلا هذا دليل على أن الله تعالى يقلّب القلوب فيشرح بعضها للهدى، ويجعل بعضها في أكنة فلا تفقه كلام الله ولا تؤمن، ‏{‏وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ‏}‏، من المعجزات والدلالات، ‏{‏لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ‏}‏، يعني‏:‏ أحاديثهم وأقاصيصهم، والأساطير جمع‏:‏ أسطورة، وإسطارة، وقيل‏:‏ هي الترهات والأباطيل، وأصلها من سطرت، أي‏:‏ كتبت‏.‏

‏{‏وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ‏}‏ أي‏:‏ ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ‏}‏، أي‏:‏ يتباعدون عنه بأنفسهم، نزلت في كفار مكة، قاله محمد بن الحنفية والسدي والضحاك، وقال قتادة‏:‏ ينهون عن القرآن وعن النبي صلى الله عليه وسلم ويتباعدون عنه‏.‏

وقال ابن عباس ومقاتل نزلت في أبي طالب كان ينهى الناس عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم ويمنعهم وينأى عن الإيمان به، أي‏:‏ يبعد، حتى رُوي أنه اجتمع إليه رءوس المشركين وقالوا‏:‏ خذ شابا من أصبحنا وجها، وادفع إلينا محمدا، فقال أبو طالب‏:‏ ما أنصفتموني أدفع إليكم ولدي لتقتلوه وأربي ولدكم‏؟‏ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإيمان، فقال‏:‏ لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك، ولكن أذب عنك ما حييت‏.‏ وقال فيه أبياتا‏:‏

والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وابشر بذاك وقر بذاك منك عيونا

ودعوتني وعرفت أنك ناصحي *** ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

وعرضت دينا قد علمت بأنه *** من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذار سبة *** لوجدتني سمحا بذاك مبينا

‏{‏وَإِنْ يُهْلِكُونَ‏}‏، أي‏:‏ ما يهلكون، ‏{‏إِلا أَنْفُسَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا يرجع وبال فعلهم إلا إليهم، وأوزار الذين يصدونهم عليهم، ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 30‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏27‏)‏ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏28‏)‏ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ‏(‏29‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ‏}‏ يعني‏:‏ في النار، كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏على ملك سليمان‏)‏ أي‏:‏ في ملك سليمان، وقيل‏:‏ عرضوا على النار، وجواب ‏"‏لو‏"‏ محذوف معناه‏:‏ لو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجبا، ‏{‏فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ‏}‏ يعني‏:‏ إلى الدنيا، ‏{‏وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ قراءة العامة كلها بالرفع على معنى‏:‏ يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب، ونكون من المؤمنين، وقرأ حمزة وحفص ويعقوب ‏"‏ولا نكذب ونكون‏"‏ بنصب الباء والنون على جواب التمني، أي‏:‏ ليت ردنا وقع، وأن لا نكذب ونكون، والعرب تنصب جواب التمني بالواو كما تنصب بالفاء، وقرأ ابن عامر ‏"‏نكذب‏"‏ بالرفع و ‏"‏نكون‏"‏ بالنصب لأنهم تمنوا أن يكونوا من المؤمنين، وأخبروا عن أنفسهم أنهم لا يكذبون بآيات ربهم إن ردوا إلى الدنيا‏.‏

‏{‏بَلْ بَدَا لَهُمْ‏}‏ قوله‏:‏ ‏"‏بل‏"‏ تحته رد لقولهم، أي‏:‏ ليس الأمر على ما قالوا إنهم لو ردوا لآمنوا، بل بدا لهم، ظهر لهم، ‏{‏مَا كَانُوا يُخْفُونَ‏}‏ يسرون، ‏{‏مِنْ قَبْلُ‏}‏ في الدنيا من كفرهم ومعاصيهم، وقيل‏:‏ ما كانوا يخفون وهو قولهم ‏"‏والله ربنا ما كنا مشركين‏"‏ ‏(‏الأنعام، 23‏)‏، فأخفوا شركهم وكتموا حتى شهدت عليهم جوارحهم بما كتموا وستروا، لأنهم كانوا لا يخفون كفرهم في الدنيا، إلا أن تجعل الآية في المنافقين، وقال المبرد‏:‏ بل بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون، وقال النضر بن شميل‏:‏ بل بدا عنهم‏.‏

ثم قال ‏{‏وَلَوْ رُدُّوا‏}‏ إلى الدنيا ‏{‏لَعَادُوا لِمَا‏}‏ يعني إلى ما ‏{‏نُهُوا عَنْهُ‏}‏ من الكفر، ‏{‏وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏ في قولهم، لو رددنا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا وكنا من المؤمنين‏.‏

‏{‏وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ‏}‏ هذا إخبار عن إنكارهم البعث، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، هذا من قولهم لو ردوا لقالوه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ‏}‏ أي‏:‏ على حكمه وقضائه ومسألته، وقيل‏:‏ عرضوا على ربهم، ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم وقيل‏:‏ تقول لهم الخزنة بأمر الله، ‏{‏أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ أليس هذا البعث والعذاب بالحق‏؟‏ ‏{‏قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا‏}‏ إنه حق، قال ابن عباس‏:‏ هذا في موقف، وقولهم‏:‏ والله ربنا ما كنا مشركين في موقف آخر، وفي القيامة مواقف، ففي موقف يقرون، وفي موقف ينكرون‏.‏ ‏{‏قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 33‏]‏

‏{‏قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏31‏)‏ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ‏(‏32‏)‏ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ خسروا أنفسهم بتكذيبهم المصير إلى الله بالبعث بعد الموت، ‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ‏}‏ أي‏:‏ القيامة ‏{‏بَغْتَةً‏}‏ أي‏:‏ فجأة، ‏{‏قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا‏}‏ ندامتنا، ذكر على وجه النداء للمبالغة، وقال سيبويه‏:‏ كأنه يقول‏:‏ أيتها الحسرة هذا أوانك، ‏{‏عَلَى مَا فَرَّطْنَا‏}‏ أي‏:‏ قصرنا ‏{‏فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ في الطاعة، وقيل‏:‏ تركنا في الدنيا من عمل الآخرة‏.‏

قال محمد بن جرير‏:‏ الهاء راجعة إلى الصفقة، وذلك أنه لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الآخرة بالدنيا قالوا‏:‏ يا حسرتنا على ما فرطنا فيها، أي‏:‏ في الصفقة فترك ذكر الصفقة اكتفاء بذكر بقوله ‏{‏قَدْ خَسِرَ‏}‏ لأن الخسران إنما يكون في صفقة بيع، والحسرة شدة الندم، حتى يتحسر النادم، كما يتحسر الذي تقوم به دابته في السفر البعيد، ‏{‏وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ‏}‏ أثقالهم وآثامهم، ‏{‏عَلَى ظُهُورِهِمْ‏}‏ قال السدي وغيره‏:‏ إن المؤمن إذ أخرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبه ريحا فيقول له‏:‏ هل تعرفني‏؟‏ فيقول‏:‏ لا فيقول‏:‏ أنا عملك الصالح فاركبني، فقد طالما ركبتك في الدنيا، فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏(‏يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا‏)‏ ‏(‏مريم، 85‏)‏ أي‏:‏ ركبانا، وأما الكافر فيستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحا، فيقول‏:‏ هل تعرفني‏؟‏ فيقول‏:‏ لا‏.‏ فيقول‏:‏ أنا عملك الخبيث طالما ركبتني في الدنيأ فأنا اليوم أركبك، فهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ‏}‏ ‏{‏أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ‏}‏ يحملون قال ابن عباس‏:‏ بئس الحمل حملوا‏.‏

‏{‏وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ‏}‏ باطل وغرور لا بقاء لها ‏{‏وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ‏}‏ قرأ ابن عامر ‏{‏وَلَدَارُ الآخِرَةِ‏}‏ مضافا أضاف الدار إلى الآخرة، ويضاف الشيء إلى نفسه عند اختلاف اللفظين، كقوله‏:‏ ‏(‏وحب الحصيد‏)‏، وقولهم‏:‏ ربيع الأول ومسجد الجامع، سميت الدنيا لدنوها، وقيل‏:‏ لدناءتها، وسميت الآخرة لأنها بعد الدنيا، ‏{‏خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ الشرك، ‏{‏أَفَلا تَعْقِلُونَ‏}‏ أن الآخرة أفضل من الدنيا، قرأ أهل المدينة وابن عامر ويعقوب ‏(‏أفلا تعقلون‏)‏ بالتاء هاهنا وفي الأعراف وسورة يوسف ويس، ووافق أبو بكر في سورة يوسف، ووافق حفص إلا في سورة يس، وقرأ الآخرون بالياء فيهن‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ‏}‏ قال السدي‏:‏ التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام، فقال الأخنس لأبي جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب‏؟‏ فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيري، قال أبو جهل‏:‏ والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش‏؟‏ فأنزل الله عز وجل هذه الآية‏.‏

وقال ناجية بن كعب‏:‏ قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم لا نتهمك ولا نكذبك، ولكنا نكذب الذي جئت به، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ‏}‏ بأنك كاذب، ‏{‏فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ‏}‏ قرأ نافع والكسائي بالتخفيف، وقرأ الآخرون بالتشديد من التكذيب، والتكذيب هو أن تنسبه إلى الكذب، وتقول له‏:‏ كذبت، والإكذاب هو أن تجده كاذبا، تقول العرب‏:‏ أجدبت الأرض وأخصبتها إذا وجدتها جدبة ومخصبة، ‏{‏وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ‏}‏ يقول‏:‏ إنهم لا يكذبونك في السر لأنهم عرفوا صدقك فيما مضى، وإنما يكذبون وحيي ويجحدون آياتي، كما قال‏:‏ ‏"‏وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم‏"‏ ‏(‏النمل، 94‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏34‏)‏ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏35‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏ كذبهم قومهم كما كذبتك قريش، ‏{‏فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا‏}‏ بتعذيب من كذبهم، ‏{‏وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ‏}‏ لا ناقض لما حكم به، وقد حكم في كتابه بنصر أنبيائه عليهم السلام، فقال‏:‏ ‏(‏ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون‏)‏ ‏(‏الصافات، 171- 172‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إنا لننصر رسلنا‏)‏ ‏(‏غافر، 51‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏كتب الله لأغلبن أنا ورسلي‏)‏ ‏(‏المجادلة، 21‏)‏، وقال الحسن بن الفضل‏:‏ لا خلف لعداته ‏{‏وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ و ‏{‏مِنْ‏}‏ صلة كما تقول‏:‏ أصابنا من مطر‏.‏

‏{‏وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ عظم عليك وشق أن أعرضوا عن الإيمان بك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على إيمان قومه أشد الحرص، وكانوا إذ سألوا آية أحب أن يريهم الله تعالى ذلك طمعا في إيمانهم، فقال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا‏}‏ تطلب وتتخد نفقا سربا ‏{‏وَفِي الأرْضِ‏}‏ ومنه نافقاء اليربوع، وهو أحد جحريه فيذهب فيه، ‏{‏أَوْ سُلَّمًا‏}‏ أي‏:‏ درجا ومصعدا، ‏{‏فِي السَّمَاءِ‏}‏ فتصعد فيه، ‏{‏فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ‏}‏ فافعل، ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى‏}‏ فآمنوا كلهم، ‏{‏فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ‏}‏ أي‏:‏ بهذا الحرف، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى‏}‏ وأن من يكفر لسابق علم الله فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 38‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏36‏)‏ وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ‏(‏37‏)‏ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ‏}‏ يعني‏:‏ المؤمنين الذين يسمعون الذكر فيتبعونه وينتفعون به دون من ختم الله على سمعه، ‏{‏وَالْمَوْتَى‏}‏ يعني الكفار، ‏{‏يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ‏}‏ فيجزيهم بأعمالهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا‏}‏ يعني‏:‏ رؤساء قريش، ‏{‏لَوْلا‏}‏ هلا ‏{‏نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ ما عليهم في إنزالها‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ‏}‏ قيد الطيران بالجناح تأكيدا كما يقال نظرت بعيني وأخذت بيدي، ‏{‏إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ أصناف مصنفة تعرف بأسمائها يريد أن كل جنس من الحيوان أمة، فالطير أمة، والدواب أمة، والسباع أمة، تعرف بأسمائها مثل بني آدم، يعرفون بأسمائهم، يقال‏:‏ الإنس والناس‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي أنا علي بن الجعد أنا المبارك هو ابن فضالة عن الحسن عن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لولا أن الكلاب أمة لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم‏.‏

وقيل‏:‏ أمم أمثالكم يفقه بعضهم عن بعض، وقيل‏:‏ أمم أمثالكم في الخلق والموت والبعث، وقال عطاء‏:‏ أمم أمثالكم في التوحيد والمعرفة، قال ابن قتيبة‏:‏ أمم أمثالكم في الغذاء وابتغاء الرزق وتوقي المهالك‏.‏

‏{‏مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ‏}‏ أي‏:‏ في اللوح المحفوظ، ‏{‏مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ‏}‏ قال ابن عباس والضحاك‏:‏ حشرها موتها، وقال أبو هريرة‏:‏ يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير، وكل شيء فيأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول‏:‏ كوني ترابا فحينئذ يتمنى الكافر ويقول‏:‏ ‏(‏يا ليتني كنت ترابا‏)‏‏.‏

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لتردن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 43‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏39‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏40‏)‏ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ‏(‏41‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ‏(‏42‏)‏ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ‏}‏ لا يسمعون الخير ولا يتكلمون به، ‏{‏فِي الظُّلُمَاتِ‏}‏ في ضلالات الكفر، ‏{‏مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ وهو الإسلام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ‏}‏ هل رأيتم‏؟‏ والكاف فيه للتأكيد، وقال الفراء‏:‏ العرب تقول أرأيتك، وهم يريدون أخبرنا، كما يقول‏:‏ أرأيتك إن فعلت كذا ماذا تفعل‏؟‏ أي‏:‏ أخبرني، وقرأ أهل المدينة ‏"‏أرأيتكم، وأرأيتم، وأرأيت‏"‏ بتليين الهمزة الثانية، والكسائي بحذفها، قال ابن عباس‏:‏ قل يا محمد لهؤلاء المشركين أرأيتكم، ‏{‏إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ‏}‏ قبل الموت، ‏{‏أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ‏}‏ يعني‏:‏ القيامة، ‏{‏أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ‏}‏ في صرف العذاب عنكم، ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ وأراد أن الكفار يدعون الله في أحوال الاضطرار كما أخبر الله عنهم‏:‏ ‏(‏وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين‏)‏ ‏(‏لقمان، 32‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ‏}‏ أي‏:‏ تدعون الله ولا تدعون غيره، ‏{‏فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ‏}‏ قيد الإجابة بالمشيئة والأمور كلها بمشيئته ‏{‏وَتَنْسَوْنَ‏}‏ وتتركون، ‏{‏مَا تُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ‏}‏ بالشدة والجوع، ‏{‏وَالضَّرَّاءِ‏}‏ المرض والزمانة، ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ‏}‏ أي يتوبون ويخضعون، والتضرع السؤال بالتذلل‏.‏

‏{‏فَلَوْلا‏}‏ فهلا ‏{‏إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا‏}‏ عذابنا، ‏{‏تَضَرَّعُوا‏}‏ فآمنوا فكشف عنهم، أخبر الله عز وجل أنه قد أرسل إلى قوم بلغوا من القسوة إلى أنهم أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا ولم يتضرعوا، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ من الكفر والمعاصي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ‏(‏44‏)‏ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏45‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ‏}‏ تركوا ما وعظوا وأمروا به، ‏{‏فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ قرأ أبو جعفر، ‏"‏فتَّحنا‏"‏ بالتشديد، في كل القرآن، وقرأ ابن عامر كذلك إذا كان عقبيه جمعاُوالباقون بالتخفيف وهذا فتح استدراج ومكر، أي‏:‏ بدلنا مكان البلاء والشدة الرخاء والصحة، ‏{‏حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا‏}‏ وهذا فرح بطر مثل فرح قارون بما أصاب من الدنيا، ‏{‏أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً‏}‏ فجأة آمن ما كانوا، وأعجب ما كانت الدنيا إليهم، ‏{‏فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ‏}‏ آيسون من كل خير، وقال أبو عبيدة‏:‏ المبلس النادم الحزين، وأصل الإبلاس‏:‏ الإطراق من الحزن والندم، وروى عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته، فإنما ذلك استدراج‏)‏، ثم تلا ‏"‏فلما نسوا ما ذكروا به‏"‏ الآية‏.‏

‏{‏فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا‏}‏ أي‏:‏ آخرهم الذين بدبرهم، يقال‏:‏ دبر فلان القوم يدبرهم دبرا ودبورا إذا كان آخرهم ومعناه أنهم استؤصلوا بالعذاب فلم يبق منهم باقية، ‏{‏وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ حمد الله نفسه على أن قطع دابرهم لأنه نعمة على الرسل، فذكر الحمد لله تعليما لهم ولمن آمن بهم، أن يحمدوا الله على كفايته شر الظالمين، وليحمد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ربهم إذا أهلك المكذبين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ‏}‏ أيها المشركون، ‏{‏إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ‏}‏ حتى لا تسمعوا شيئا أصلا ‏{‏وَأَبْصَارَكُمْ‏}‏ حتى لا تبصروا شيئا، ‏{‏وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ‏}‏ حتى لا تفقهوا شيئا ولا تعرفوا مما تعرفون من أمور الدنيا، ‏{‏مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ‏}‏ ولم يقل بها مع أنه ذكر أشياء، قيل‏:‏ معناه يأتيكم بما أخذ منكم، وقيل‏:‏ الكناية ترجع إلى السمع الذي ذكر أولا ويندرج غيره تحته، كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏والله ورسوله أحق أن يرضوه‏)‏ ‏(‏التوبة، 62‏)‏‏.‏ فالهاء راجعة إلى الله، ورضى رسوله يندرج في رضى الله تعالى، ‏{‏انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ‏}‏ أي‏:‏ نبين لهم العلامات الدالة على التوحيد والنبوة، ‏{‏ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ‏}‏ يعرضون عنها مكذبين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 50‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏47‏)‏ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏48‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏49‏)‏ قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً‏}‏ فجأة، ‏{‏أَوْ جَهْرَةً‏}‏ معاينة ترونه عند نزوله، قال ابن عباس والحسن ليلا أو نهارا، ‏{‏هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ‏}‏ المشركون‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ‏}‏ العمل، ‏{‏فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ حين يخاف أهل النار، ‏{‏وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ إذا حزنوا‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ‏}‏ يصيبهم ‏{‏الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏ يكفرون‏.‏

‏{‏قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ‏}‏ نزل حين اقترحوا الآيات فأمره أن يقول لهم‏:‏ ‏{‏لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ‏}‏ أي خزائن رزقه فأعطيكم ما تريدون، ‏{‏وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ‏}‏ فأخبركم بما غاب مما مضى ومما سيكون، ‏{‏وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ‏}‏ قال ذلك لأن الملك يقدر على ما لا يقدر عليه الآدمي ويشاهد ما لا يشاهده الآدمي، يريد لا أقول لكم شيئا من ذلك فتنكرون قولي وتجحدون أمري، ‏{‏إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ‏}‏ أي‏:‏ ما آتيكم به فمن وحي الله تعالى، وذلك غير مستحيل في العقل مع قيام الدليل والحجج البالغة، ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ‏}‏‏؟‏ قال قتادة‏:‏ الكافر والمؤمن، وقال مجاهد‏:‏ الضال والمهتدي، وقيل‏:‏ الجاهل والعالم، ‏{‏أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ أنهما لا يستويان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏51‏)‏ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَنْذِرْ بِهِ‏}‏ خوّف به أي‏:‏ بالقرآن، ‏{‏الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا‏}‏ يجمعوا ويبعثوا إلى ربهم، وقيل‏:‏ يخافون أي يعلمون، لأن خوفهم إنما كان من علمهم، ‏{‏لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ‏}‏ من دون الله، ‏{‏وَلِيٌّ‏}‏ قريب ينفعهم، ‏{‏وَلا شَفِيعٌ‏}‏ يشفع لهم، ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ فينتهون عما نهوا عنه، وإنما نفى الشفاعة لغيره- مع أن الأنبياء والأولياء يشفعون- لأنهم لا يشفعون إلا بإذنه‏.‏

‏{‏وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ‏}‏ قرأ ابن عامر ‏"‏بالغدوة‏"‏ بضم الغين وسكون الدال وواو بعدها، هاهنا وفي سورة الكهف، وقرأ الآخرون‏:‏ بفتح العين والدال وألف بعدها‏.‏

قال سلمان وخباب بن الأرت‏:‏ فينا نزلت هذه الآية، جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري وذووهم من المؤلفة قلوبهم، فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب في ناس من ضعفاء المؤمنين، فلما رأوهم حوله حقروهم، فأتوه فقالوا‏:‏ يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم، وكان عليهم جباب صوف لم يكن عليهم غيرها، لجالسناك وأخذنا عنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم‏:‏ ‏"‏ما أنا بطارد المؤمنين‏"‏ قالوا فإنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال‏:‏ نعم، قالوا‏:‏ اكتب لنا عليك بذلك كتابا، قال‏:‏ فدعا بالصحيفة ودعا عليا ليكتب، قالوا ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبريل بقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بِالشَّاكِرِينَ‏}‏ فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده، ثم دعانا فأثبته، وهو يقول‏:‏ ‏(‏سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة‏)‏، فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏(‏واصبر نفسك ممع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه‏)‏ ‏(‏الكهف، 28‏)‏، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد وندنو منه حتى كادت ركبنا تمس ركبته، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم، وقال لنا‏:‏ ‏"‏الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات‏"‏‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ قالوا له اجعل لنا يوما ولهم يوما، فقال‏:‏ لا أفعل، قالوا‏:‏ فاجعل المجلس واحدا فأقبل إلينا وولِّ ظهرك عليهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ‏}‏‏.‏

قال مجاهد‏:‏ قالت قريش‏:‏ لولا بلال وابن أم عبد لبايعنا محمدا، فأنزل الله هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني يعبدون ربهم بالغداة والعشي، يعني‏:‏ صلاة الصبح وصلاة العصر، ويروى عنه‏:‏ أن المراد منه الصلوات الخمس، وذلك أن أناسا من الفقراء كانوا مع النبي عليه السلام، فقال ناس من الأشراف‏:‏ إذا صلينا فأخر هؤلاء فليصلوا خلفنا، فنزلت الآية‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ صليت الصبح مع سعيد بن المسيب، فلما سلم الإمام ابتدر الناس القاص، فقال سعيد‏:‏ ما أسرع الناس إلى هذا المجلس‏!‏ قال مجاهد‏:‏ فقلت يتأولون قوله تعالى ‏{‏يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ‏}‏ قال‏:‏ أفي هذا هو، إنمأ ذلك في الصلاة التي انصرفنا عنها الآن، وقال إبراهيم النخعي‏:‏ يعني يذكرون ربهم، وقيل المراد منه‏:‏ حقيقة الدعاء، ‏{‏يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ أي‏:‏ يريدون الله بطاعتهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ يطلبون ثواب الله فقال‏:‏ ‏{‏مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ أي‏:‏ لا تكلف أمرهم ولا يتكلفون أمرك، وقيل‏:‏ ليس رزقهم عليك فتملّهم، ‏{‏فَتَطْرُدَهُمْ‏}‏ ولا رزقك عليهم، قوله ‏{‏فَتَطْرُدَهُمْ‏}‏ جواب لقوله ‏{‏مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ‏}‏ جواب لقوله ‏{‏وَلا تَطْرُدِ‏}‏ أحدهما جواب النفي والآخر جواب النهي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 54‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ‏(‏53‏)‏ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ فَتَنَّا‏}‏ أي‏:‏ ابتلينا، ‏{‏بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ‏}‏ أراد ابتلاء الغني بالفقير والشريف بالوضيع، وذلك أن الشريف إذا نظر إلى الوضيع قد سبقه بالإيمان امتنع من الإسلام بسببه فكان فتنة له فذلك قوله‏:‏ ‏{‏لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا‏}‏ فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ‏}‏ فهو جواب لقوله ‏{‏أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا‏}‏ فهو استفهام بمعنى التقرير، أي‏:‏ الله أعلم بمن شكر الإسلام إذ هداه الله عز وجل‏.‏

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني أنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي ثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو بن بسطام ثنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي أنا مسدد أنا جعفر بن سليمان عن المعلى بن زياد عن العلاء بن بشير المزني عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ جلست في نفر من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري، وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام علينا، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت القارئ، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏ما كنتم تصنعون‏؟‏ قلنا يا رسول الله كان قارئ يقرأ علينا فكنا نستمع إلى كتاب الله تعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم‏"‏ قال‏:‏ ثم جلس وسطنا ليدل نفسه فينا ثم قال بيده هكذا فتحلقوا، وبرزت وجوههم له، قال فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف منهم أحدا غيري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقدار خمسمائة سنة‏"‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ‏}‏ قال عكرمة‏:‏ نزلت في الذين نهى الله عز وجل نبيه عن طردهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام‏.‏

وقال عطاء‏:‏ نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وسالم وأبي عبيدة ومصعب بن عمير وحمزة وجعفر وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر والأرقم بن أبي الأرقم وأبي سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

‏{‏كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ‏}‏ أي‏:‏ قضى على نفسه الرحمة، ‏{‏أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ لا يعلم حلالا من حرام فمن جهالته ركب الذنب، وقيل‏:‏ جاهل بما يورثه ذلك الذنب، وقيل‏:‏ جهالته من حيث أنه آثر المعصية على الطاعة والعاجل القليل على الآجل الكثير، ‏{‏ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ‏}‏ رجع عن ذنبه، ‏{‏وَأَصْلَحَ‏}‏ عمله، قيل‏:‏ أخلص توبته، ‏{‏فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب ‏"‏ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ ‏"‏ ‏"‏ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏"‏ بفتح الألف فيهما بدلا من الرحمة، أي‏:‏ كتب على نفسه أنه من عمل منكم، ثم جعل الثانية بدلا عن الأولى، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون‏"‏، ‏(‏المؤمنون، 35‏)‏، وفتح أهل المدينة الأولى منهما وكسروا الثانية على الاستئناف، وكسرهما الآخرون على الاستئناف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 56‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏55‏)‏ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ‏}‏ أي‏:‏ وهكذا، وقيل‏:‏ معناه وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا وإعلامنا على المشركين كذلك نفصل الآيات، أي‏:‏ نميز ونبين لك حجتنا في كل حق ينكره أهل الباطل، ‏{‏وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ طريق المجرمين، وقرأ أهل المدينة ‏"‏ولتستبين‏"‏ بالتاء، ‏"‏سبيل‏"‏ نصب على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، أي‏:‏ ولتعرف يا محمد سبيل المجرمين، يقال‏:‏ استبنت الشيء وتبينته إذا عرفته، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ‏"‏وليستبين‏"‏ بالياء ‏"‏سبيل‏"‏ بالرفع، وقرأ الآخرون ‏{‏وَلِتَسْتَبِينَ‏}‏ بالتاء ‏"‏سبيل‏"‏ رفع، أي‏:‏ ليظهر ويتضح السبيل، يُذكر ويُؤنث، فدليل التذكير قوله تعالى‏:‏ ‏"‏وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا‏"‏ ‏(‏الأعراف، 146‏)‏، ودليل الثأنيت قوله تعالى‏:‏ ‏"‏لم تصدون عن سبيل الله من آمن به تبغونها عوجا‏"‏ ‏(‏آل عمران، 99‏)‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ‏}‏ في عبادة الأوثان وطرد الفقراء، ‏{‏قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ‏}‏ يعني‏:‏ إن فعلت ذلك فقد تركت سبيل الحق وسلكت غير طريق الهدى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 58‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ‏(‏57‏)‏ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ‏}‏ أي‏:‏ على بيان وبصيرة وبرهان، ‏{‏مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ ما جئت به، ‏{‏مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ‏}‏ قيل‏:‏ أراد به استعجالهم العذاب، كانوا يقولون‏:‏ ‏"‏إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة‏"‏ ‏(‏الأنفال، 32‏)‏ الآية، قيل‏:‏ أراد به القيامة، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها‏"‏ ‏(‏الشوري، 18‏)‏، ‏{‏إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ‏}‏ قرأ أهل الحجاز وعاصم يقص بضم القاف والصاد مشددا أي يقول الحق، لأنه في جميع المصاحف بغير ياء، ولأنه قال الحق ولم يقل بالحق، وقرأ الآخرون ‏(‏يقضي‏)‏ بسكون القاف والضاد مكسورة، من قضيت، أي‏:‏ يحكم بالحق بدليل أنه قال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ‏}‏ والفصل يكون في القضاء وإنما حذفوا الياء لاستثقال الألف واللام، كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏صال الجحيم‏)‏ ونحوها، ولم يقل بالحق لأن الحق صفة المصدر، كأنه قال‏:‏ يقضي القضاء الحق‏.‏

‏{‏قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي‏}‏ وبيدي، ‏{‏مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ‏}‏ من العذاب ‏{‏لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ فرغ من العذاب وأهلكتم أي‏:‏ لعجلته حتى أتخلص منكم، ‏{‏وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 60‏]‏

‏{‏وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏59‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ‏}‏ مفاتح الغيب خزائنه، جمع مفتح‏.‏

واختلفوا في مفاتح الغيب، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر أنا عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر يقول‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏"‏مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحام أحد إلا الله تعالى، ولا يعلم ما في الغد إلا الله عز وجل ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة أحد إلا الله‏"‏‏.‏

وقال الضحاك ومقاتل‏:‏ مفاتح الغيب خزائن الأرض، وعلم نزول العذاب‏.‏

وقال عطاء‏:‏ ما غاب عنكم من الثواب والعقاب‏.‏

وقيل‏:‏ انقضاء الآجال، وقيل‏:‏ أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم، وقيل‏:‏ هي ما لم يكن بعد أنه يكون أم لا يكون، وما يكون كيف يكون، وما لا يكون أن لو كان كيف يكون‏؟‏ وقال ابن مسعود‏:‏ ‏"‏أوتي نبيكم علم كل شيء إلا علم مفاتيح الغيب‏"‏‏.‏

‏{‏وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ البر‏:‏ المفاوز والقفار، والبحر‏:‏ القرى والأمصار، لا يحدث فيهما شيء إلا يعلمه، وقيل‏:‏ هو البر والبحر المعروف، ‏{‏وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا‏}‏ يريد ساقطة وثابتة، يعني‏:‏ يعلم عدد ما يسقط من ورق الشجر وما يبقى عليه، وقيل‏:‏ يعلم كم انقلبت ظهرا لبطن إلى أن سقطت على الأرض، ‏{‏وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ‏}‏ قيل‏:‏ هو الحب المعروف في بطون الأرض، وقيل‏:‏ هو تحت الصخرة في أسفل الأرضين، ‏{‏وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ الرطب الماء، واليابس البادية، وقال عطاء‏:‏ يريد ما ينبت وما لا ينبت، وقيل‏:‏ ولا حي ولا ميت، وقيل‏:‏ هو عبارة عن كل شيء، ‏{‏إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ يعني أن الكل مكتوب في اللوح المحفوظ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ‏}‏ أي‏:‏ يقبض أرواحكم إذا نمتم بالليل، ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ‏}‏ كسبتم، ‏{‏بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ يوقظكم في النهار، ‏{‏لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى‏}‏ يعني‏:‏ أجل الحياة إلى الممات، يريد استيفاء العمر على التمام، ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ‏}‏ في الآخرة، ‏{‏ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ‏}‏ يخبركم، ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 63‏]‏

‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ‏(‏61‏)‏ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ‏(‏62‏)‏ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏63‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم، وهو جمع حافظ، نظيره ‏"‏وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين‏"‏ ‏(‏الانفطار، 11‏)‏، ‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ‏}‏ قرأ حمزة ‏(‏توفيه‏)‏ و ‏(‏استهويه‏)‏ بالياء وأمالهما، ‏{‏رُسُلُنَا‏}‏ يعني‏:‏ أعوان ملك الموت يقبضونه فيدفعونه إلى ملك الموت فيقبض روحه، كما قال‏:‏ ‏(‏قل يتوفاكم ملك الموت‏)‏، وقيل الأعوان يتوفونه بأمر ملك الموت، فكأن ملك الموت توفاه لأنهم يصدرون عن أمره، وقيل‏:‏ أراد بالرسل ملك الموت وحده، فذكر الواحد بلفظ الجمع، وجاء في الأخبار‏:‏ أن الله تعالى جعل الدنيا بين يدي ملك الموت كالمائدة الصغيرة فيقبض من هاهنا ومن هاهنا فإذا كثرت الأرواح يدعو الأرواح فتجيب له، ‏{‏وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ‏}‏ لا يقصرون‏.‏

‏{‏ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة، وقيل‏:‏ يعني العباد يردون بالموت إلى الله مولاهم الحق، فإن قيل الآية في المؤمنين والكفار جميعا وقد قال في آية أخرى‏:‏ ‏"‏وأن الكافرين لا مولى لهم‏"‏ ‏(‏محمد، 11‏)‏، فكيف وجه الجمع‏؟‏ فقيل‏:‏ المولى في تلك الآية بمعنى الناصر ولا ناصر للكفار، والمولى هاهنا بمعنى الملك الذي يتولى أمورهم، والله عز وجل مالك الكل ومتولي الأمور، وقيل‏:‏ أراد هنا المؤمنين خاصة يردون إلى مولاهم، والكفار فيه تبع، ‏{‏أَلا لَهُ الْحُكْمُ‏}‏ أي‏:‏ القضاء دون خلقه، ‏{‏وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ‏}‏ أي‏:‏ إذا حاسب فحسابه سريع لأنه لا يحتاج إلى فكرة ورؤية وعقد يد‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ‏}‏ قرأ يعقوب بالتخفيف، وقرأ العامة بالتشديد، ‏{‏مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ‏}‏ أي‏:‏ من شدائدهما وأهوالهما، كانوا إذا سافروا في البر والبحر فضلُّوا الطريق وخافوا الهلاك، دعوا الله مخلصين له الدين فينجيهم، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً‏}‏ أي‏:‏ علانية وسرا، قرأ أبو بكر عن عاصم ‏"‏ وخفية ‏"‏ بكسر الخاء هاهنا وفي الأعراف، وقرأ الآخرون بضمها وهما لغتان، ‏{‏لَئِنْ أَنْجَانَا‏}‏ أي‏:‏ يقولون لئن أنجيتنا، وقرأ أهل الكوفة‏:‏ لئن أنجانا الله، ‏{‏مِنْ هَذِهِ‏}‏ يعني‏:‏ من هذه الظلمات، ‏{‏لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ‏}‏ والشكر‏:‏ هو معرفة النعمة مع القيام بحقها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 65‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏64‏)‏ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا‏}‏ قرأ أهل الكوفة وأبو جعفر ‏"‏ ينجيكم ‏"‏ بالتشديد، مثل قوله تعالى‏:‏

‏"‏قل من ينجيكم‏"‏ وقرأ الآخرون هذا بالتخفيف، ‏{‏وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ‏}‏ والكرب غاية الغم الذي يأخذ بالنفس، ‏{‏ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ‏}‏ يريد أنهم يقرون أن الذي يدعونه عند الشدة هو الذي ينجيهم ثم تشركون معه الأصنام التي قد علموا أنها لا تضر ولا تنفع‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ‏}‏ قال الحسن وقتادة‏:‏ نزلت الآية في أهل الإيمان، وقال قوم نزلت في المشركين‏.‏

قوله ‏{‏عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ الصيحة والحجارة والريح والطوفان، كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح، ‏{‏أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ الرجفة والخسف كما فعل بقوم شعيب وقارون‏.‏

وعن ابن عباس ومجاهد‏:‏ ‏{‏عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ‏}‏ السلاطين الظلمة، ومن تحت أرجلكم العبيد السوء، وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏مِنْ فَوْقِكُمْ‏}‏ من قبل كباركم ‏{‏أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ أي من أسفل منكم، ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا‏}‏ أي‏:‏ يخلطكم فرقا ويبث فيكم الأهواء المختلفة، ‏{‏وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ يعني‏:‏ السيوف المختلفة، يقتل بعضكم بعضا‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو النعمان أنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أعوذ بوجهك‏"‏، قال‏:‏ ‏{‏أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏أعوذ بوجهك‏"‏، قال‏:‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏هذا أهون أو هذا أيسر‏"‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أنا أبو جعفر محمد بن علي دحيم الشيباني أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة أنا يعلى بن عبيد الطنافسي أنا عثمان بن حكيم عن عامر بن سعد بن وقاص عن أبيه، قال‏:‏ أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بني معاوية فدخل فصلى ركعتين وصلينا معه فناجى ربه طويلا ثم قال‏:‏ سألت ربي ثلاثا‏:‏ سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها‏"‏‏.‏

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي أنا أبو بكر محمد بن أحمد بن دلوية الدقاق ثنا محمد بن إسماعيل البخاري ثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني أخي عن سليمان بن بلال عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري أن عبد الله بن عمر جاءهم ثم قال‏:‏ ‏"‏إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في مسجد فسأل الله ثلاثا فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة، سأله أن لا يسلط على أمته عدوا من غيرهم يظهر عليهم فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يهلكهم بالسنين فأعطاه ذلك وسأله أن لا يجعل بأس بعضهم على بعض، فمنعه ذلك‏"‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 69‏]‏

‏{‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏66‏)‏ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏67‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏68‏)‏ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ‏}‏ أي‏:‏ بالقرآن، وقيل‏:‏ بالعذاب، ‏{‏وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ‏}‏ برقيب، وقيل‏:‏ بمسلط ألزمكم الإسلام شئتم أو أبيتم، إنما أنا رسول‏.‏

‏{‏لِكُلِّ نَبَإٍ‏}‏ خبر من أخبار القرون، ‏{‏مُسْتَقَرٌّ‏}‏ حقيقة ومنتهى ينتهي إليه فيتبين صدقه من كذبه وحقه من باطله، إما في الدنيا وإما في الآخرة، ‏{‏وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ وقال مقاتل‏:‏ لكل خبر يخبره الله وقت وقته ومكان يقع فيه من غير خلف ولا تأخير، وقال الكلبي‏:‏ لكل قول وفعل حقيقة، إما في الدنيا وإما في الآخرة وسوف تعلمون ما كان في الدنيا فستعرفونه وما كان في الآخرة فسوف يبدو لكم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا‏}‏ يعني‏:‏ في القرآن بالاستهزاء ‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ فاتركهم ولا تجالسهم ‏{‏حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ‏}‏ قرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد السين وقرأ الآخرون بسكون النون وتخفيف السين، ‏{‏الشَّيْطَانُ‏}‏ نهينا، ‏{‏فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ يعني‏:‏ إذا جلست معهم ناسيا فقهم من عندهم بعدما تذكرت‏.‏

‏{‏وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ قال المسلمون‏:‏ كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبدا‏؟‏ وفي رواية قال المسلمون‏:‏ فإنا نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننهاهم، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ الخوض، ‏{‏مِنْ حِسَابِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ من آثام الخائضين ‏{‏مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى‏}‏ أي‏:‏ ذكروهم وعظوهم بالقرآن، والذكر والذكرى واحد، يريد ذكروهم ذكري، فتكون في محل النصب، ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ الخوض إذا وعظتموهم فرخص في مجالستهم على الوعظ لعله يمنعهم من ذلك الخوض، وقيل‏:‏ لعلهم يستحيون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 71‏]‏

‏{‏وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏71‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا‏}‏ يعني‏:‏ الكفار الذين إذا سمعوا آيات الله استهزءوا بها وتلاعبوا عند ذكرها، وقيل‏:‏ إن الله تعالى جعل لكل قوم عيدا فاتخذ كل قوم دينهم- أي‏:‏ عيدهم- لعبا ولهوا، وعيد المسلمين الصلاة والتكبير وفعل الخير مثل الجمعة والفطر والنحر، ‏{‏وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ وعظ بالقرآن، ‏{‏أَنْ تُبْسَلَ‏}‏ أي‏:‏ لأن لا تبسل، أي‏:‏ لا تسلم، ‏{‏نَفْسٌ‏}‏ للهلاك، ‏{‏بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ قاله مجاهد وعكرمة والسدي، وقال ابن عباس‏:‏ تهلك، وقال قتادة‏:‏ أن تحبس، وقال الضحاك‏:‏ تحرق، وقال ابن زيد‏:‏ تؤخذ، ومعناه‏:‏ ذكِّرهم ليؤمنوا، كيلا تهلك نفس بما كسبت، قال الأخفش‏:‏ تبسل تجازى، وقيل‏:‏ تفضح، وقال الفراء‏:‏ ترتهن، وأصل الإبسال التحريم، والبسل الحرام، ثم جعل نعتا لكل شدة تتقى وتترك، ‏{‏لَيْسَ لَهَا‏}‏ أي لتلك النفس، ‏{‏مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ‏}‏ قريب، ‏{‏وَلا شَفِيعٌ‏}‏ يشفع في الآخرة، ‏{‏وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ‏}‏ أي‏:‏ تفد كل فداء، ‏{‏لا يُؤْخَذْ مِنْهَا‏}‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا‏}‏ أسلموا للهلاك، ‏{‏بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا‏}‏ إن عبدناه، ‏{‏وَلا يَضُرُّنَا‏}‏ إن تركناه، يعني‏:‏ الأصنام ليس إليها نفع ولا ضر، ‏{‏وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا‏}‏ إلى الشرك مرتدين ‏{‏بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ‏}‏، أي‏:‏ يكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين، أي‏:‏ أضلته، ‏{‏حَيْرَانَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كالذي استهوته الغيلان في المهامة فأضلوه فهو حائر بائر، والحيران‏:‏ المتردد في الأمر، لا يهتدي إلى مخرج منه، ‏{‏لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا‏}‏ هذا مثل ضربه الله تعالى لمن يدعو إلى الآلهة ولمن يدعو إلى الله تعالى، كمثل رجل في رفقة ضل به الغول عن الطريق يدعوه أصحابه من أهل الرفقة هلم إلى الطريق، ويدعوه الغول هلم فيبقى حيران لا يدري أين يذهب، فإن أجاب الغول انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة، وإن أجاب من يدعوه إلى الطريق اهتدى‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى‏}‏ يزجر عن عبادة الأصنام، كأنه يقول‏:‏ لا تفعل ذلك فإن الهدى هدى الله، لا هدى غيره، ‏{‏وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ‏}‏ أي‏:‏ أن نسلم، ‏{‏لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ والعرب تقول‏:‏ أمرتك لتفعل وأن تفعل وبأن تفعل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 73‏]‏

‏{‏وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏72‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏73‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ‏}‏ أي‏:‏ وأمرنا بإقامة الصلاة والتقوى، ‏{‏وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ تجمعون في الموقف للحساب‏.‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ‏}‏ قيل‏:‏ الباء بمعنى اللام، أي‏:‏ إظهارا للحق لأنه جعل صنعه دليلا على وحدانيته، ‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ قيل‏:‏ هو راجع إلى السموات والأرض والخلق، بمعنى‏:‏ القضاء والتقدير، أي كل شيء قضاه وقدره قال له‏:‏ كن، فيكون‏.‏

وقيل‏:‏ يرجع إلى القيامة، يدل على سرعة أمر البعث والساعة، كأنه قال‏:‏ ويوم يقول للخلق‏:‏ موتوا فيمومون، وقوموا فيقومون، ‏{‏قَوْلُهُ الْحَقُّ‏}‏ أي‏:‏ الصدق الواقع لا محالة، يريد أن ما وعده حق كائن، ‏{‏وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ‏}‏ يعني‏:‏ ملك الملوك يومئذ زائل، كقوله‏:‏ ‏"‏مالك يوم الدين‏"‏، وكما قال‏:‏ ‏"‏والأمر يومئذ لله‏"‏، والأمر له في كل وقت، ولكن لا أمر في ذلك اليوم لأحد مع أمر الله، والصور‏:‏ قرن ينفخ فيه، قال مجاهد‏:‏ كهيئة البوق، وقيل‏:‏ هو بلغة أهل اليمن، وقال أبو عبيدة‏:‏ الصور هو الصور وهو جمع الصورة، وهو قول الحسن‏:‏ والأول أصح‏.‏

والدليل عليه ما أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنا أبو طاهر المحاربي أنا محمد بن يعقوب الكسائي أنا أبو عبد الله بن محمود أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال أنا عبد الله بن المبارك عن سليمان التيمي عن أسلم عن بشر بن شغاف عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما الصور‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قرن ينفخ فيه‏"‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أنا أبو عبد الله بن محمد بن عبد الله الصفار أنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي أنا أبو حذيفة أنا سفيان عن الأعمش عن عطية بن سعد العوفي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏كيف أنعم وصاحب الصور قد التقمه، وأصغى سمعه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر‏"‏‏؟‏ فقالوا‏:‏ يا رسول الله وما تأمرنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل‏"‏‏.‏

وقال أبو العلاء عن عطية‏:‏ متى يؤمر بالنفخ فينفخ‏.‏

‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏}‏ يعلم ما غاب عن العباد وما يشاهدونه، لا يغيب عن علمه شيء، ‏{‏وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ‏}‏‏.‏